تلقى الجمهور الأميركي الأسبوع الماضي درسين خصوصيين حقيقيين في الدبلوماسية، وهما درسان أشك في إمكانية الاستغناء عنهما، ذلك أنهما طرحا مفهومين اثنين، وأولهما الحصول على الأشياء بالمجان وثانيهما الحرب المختارة· فكيف يمكن للولايات المتحدة أن تستوعب هذين المفهومين؟ هذه مسألة سيكون لها أثر هائل في الانتخابات الرئاسية المقبلة·
وقد قدم لنا درس الحصول على الأشياء بالمجان جميع أصدقاء وحلفاء وخصوم أميركا في الأمم المتحدة، حيث وقف الرئيس بوش في الأسبوع الماضي يستجدي الأعطيات باحثاً عن الدعم المالي والعسكري للحرب التي اختار أن يشنها في العراق· وسألخص هنا ردة الفعل الجماعية التي خرجت في الأمم المتحدة في وجه السيد بوش :
هل تكلّمنا نحن؟ هذه حربك أيها الصديق· لقد قلنا لك رأينا من قبل بشأن العراق: من يفسد الأمور يتحمل مسؤولية عواقبها· ولا بأس، ها أنت أفسدت الأمور، وها أنت مسؤول عن عواقبها· لقد وضعناك في موقف لا يمكن لك فيه أن تتصرف بحرية، ذلك أنه ما من خيار أمامك وأمام دافعي الضرائب(الأميركيين) إلاّ أن تكملوا هذا الأمر حتى النهاية· فلماذا إذاً ينبغي علينا نحن أن ندفع؟ فإذا أفلحت في تحويل المسألة العراقية إلى نجاح، فسوف نتمتع نحن جميعاً بالفوائد الأمنية، أي أننا سنحصل على الأشياء بالمجان· وإذا أخفقت و تخبطت في العراق، فإن جام الغضب كله سوف ينصب على رأسك أنت دون غيرك، وأنتم وحدكم ستدفعون الفاتورة كلها· ذلك أن هناك خطاً دقيقاً يفصل ما بين أن تكون ونستون تشرشل أو أن تكون أبله مغفلاً؛ وسوف نترك للتاريخ أن يحكم ويقرر من تكون· ولا تتوقع منا في غضون ذلك أن ندفع ثمن الفرجة، فنحن جميعاً مولودون في الليل، لكن ليس في الليلة الماضية ·
أشك في أننا سوف نستجدي ونكسب بالتملق بضعة جنود أتراك أو هنود وربما حفنة دولارات إذا نجحت الولايات المتحدة في تأمين قرار جديد من الأمم المتحدة يقدم مزيداً من التغطية لمشروع إعادة إعمار العراق الذي تضطلع به الولايات المتحدة·
نحن متأسفون يا جماعة، فنحن أفسدنا الأمور ونحن نتحمل مسؤولية العواقب، وإن أسوأ ما يمكننا فعله الآن هو أن نبدأ بمعاملة أنفسنا على نحو لا إنصاف فيه؛ إذ أن هناك تحركاً في الكونغرس الآن يسعى إلى التسديد الكامل لذلك الجزء من مبلغ الـ87 مليار دولار الخاص بنفقات القوات الأميركية في العراق، لكنه سيعني اقتطاع مبلغ الـ20 مليار دولار المخصص للمدارس العراقية وإعادة الإعمار في العراق· وسيكون في ذلك خطأ فادح، ذلك أن مبلغ الـ 20 مليار دولار هو مفتاح الخروج من هناك ومفتاح قدرة أميركا على أن تترك وراءها عراقاً مستقراً يتمتع بالحكم الذاتي· وإذا لم يكن ذلك الدرس كافياً لمدة أسبوع واحد، فإن الجمهور الأميركي أيضاً قد تلقى درساً في الحروب المختارة· وقد قدم هذا الدرس ديفيد كي ، مفتش الأسلحة السابق لدى الأمم المتحدة الذي ترأس الفريق الأميركي الذي بحث عن أسلحة التدمير الشامل في العراق· وفي الأسبوع الماضي، قدّم السيد كي تقريراً مؤقتاً يشير فيه إلى أنه لم يعثر ، بعد أربعة أشهر من البحث في العراق، على شيء من أسلحة التدمير الشامل التي استشهد بها الرئيس الأميركي جورج بوش واعتبرها السبب الرئيسي لخوض الحرب· وفيما يلي معنى ذلك في رأي الشعب الأميركي: إن الحرب التي استهدفت الإطاحة بصدام حسين كانت دوماً حرباً مختارة (وأعتقد أنه كان خياراً جيداً)· غير أن الديمقراطيات لا تحب أن تخوض الحروب المختارة، وإذا كانت تحب خوضها، فإنها تريدها أن تكون سباقات قصيرة سريعة، كما في البوسنة وغرينادا وكوسوفو- وليس سباقات ماراثون· ولأنه يعلم ذلك، حاول فريق الرئيس بوش أن يحوّل العراق إلى حرب مفروضة بمقتضى الضرورة، وذلك بتضخيم التهديد الذي ربما كان صدام حسين يشكله بأسلحة التدمير الشامل·
وبالتقرير المؤقت الذي قدمه السيد كي ، بات واضحاً الآن أن هذه لم تكن على الإطلاق حرباً مفروضة بمقتضى الضرورة، بل إنها كانت حرباً مختارة، وفوق هذا كله كانت حرباً مختارة آخذة في التحول إلى ماراثون، وليس إلى سباق قصير سريع· وإضافة إلى ذلك، ولأن فريق بوش اختار أن يبدأ هذا الماراثون بمفرده دون غيره على وجه العموم، فإن العالم الذي يحظى بالمنافع المجانية سيتركنا ننهي السباق وحدنا، ولندفع تكاليفه وحدنا على وجه العموم·
إن هذا واقع قاس بارد ويثبط الهمم، وفيه ستدور السياسات الأميركية الآن حول محور كيفية تدبر الأمر· وحتى الآن، كما يقول جيف غارتن عميد كلية الإدارة في جامعة هارفرد، لم ترق السياسات المتبعة اليوم، سواء تلك التي يتبناها الديمقراطيون أو الجمهوريون، إلى مستوى ضخامة المهمة· وهناك تفاوت وتباين بين الكلمات التي يستخدمها الناس لوصف التحدي، هذا من جهة، وأي تقييم نزيه صادق لما يتطلبه نجاح المهمة ويقتضيه- هذا من جهة أخرى ·
إن الرئيس بوش ، في قرارة نفسه ومن الناحية المعنوية، أبعد ما يكون عن الجدية عندما يقول للأميركيين إن في وسعنا تحقيق النجاح في هذا الماراثون وإننا ما زالت لدينا ا